على هامش السابع والعشرين من يوليو
غريبَـين
جلسنا للمرة العاشرة - ربما بعد المائتين - في ركننا الذي كان مفضلا في
مطعم. الوجوه تتشابه حين تتشابه الأيام، فالرجل الذي يجلس مقابلي يشبه ذلك
الذي كان مكانه بالأمس، كما سأشبه من سيجلس مكاني غداً.
قلـَّبت السكر في فنجان قهوتي بالعكس كمحاولة مني لكسر الروتين، إلا أننا لم نبدأ حديثنا بالرتابة نفسها اليوم، فهو عيد ميلادي؛ هكذا قال لها الفيسبوك. لطالما ظننت في صغري أن السابع والعشرين من الشهر السابع وُلد معي وسيسقط من الروزنامة مع رحيلي. وهو بالمناسبة مفهوم وتاريخ لم أكن أعهده حتى سن متقدمة نسبيا من عمري كون السعودية - حيث نشأت- تعتمد التقويم الهجري في المدارس.
"كل
عام وأنت بخير يا حبيبي"، قالت لي.. كلمة لا تعني لي الكثير فهي كالمعطف
في الربيع تحتاجه لدقائق إن باغتك المطر ثم تعيده حيث كان، ربما حتى الزخات
القادمة.. كما أنها جملة معيارية لا تصف المناسبة جيدا؛ فهي نفسها في ذكرى
الزواج وعيد الأم وعيدي الفطر والأضحى. والنسخة المصرية منها "كل سنة وانت طيب"
توشك أن تكون تحية يومية. تحيرني لغتنا العربية التي تجد ثلاثين وصفا للحب
وجملة واحدة لكل مناسباته!
لقد
مرت ثلاثة عقود منذ كنت في الثامنة- وقتها كان عالمي ملكَ أبي وأمي، وكنت
سعيدًا بساعة يدي التي لم أكن أعرف قراءتها، وبالريال- مصروفي اليومي- والذي
كان يكفي وجبة مدرسية- بالطبع مع السندويشة التي تعدها أمي في الصباح دون
أن تنسى التعليمات اليومية: "بترجع الكيس!" ضحكت
كثيرا عندما علمت من صديقي مروان بالصدفة وبعد سنوات طويلة أنه كان يتلقى
نفس الوصية من أمه في مخيم الوحدات بالأردن وقلت مبتسما في نفسي "أولئك هن
الأمهات الفلسطينيات".
فرحتي كانت عارمة بمشوار البحر وإن كنت لا أجيد السباحة. وكنت أنتظر مشوار ما بعد ظهيرة الجمعة لتعبئة مياه الشرب من محطة المياه، لا لشيء إلا لأنه بالقرب من ماكينة الآيسكريم الوحيدة في الأحساء، حيث مجمع التسوق الأول في المدينة والأهم من ذلك: السلم الكهربائي الوحيد فيها.
فرحتي كانت عارمة بمشوار البحر وإن كنت لا أجيد السباحة. وكنت أنتظر مشوار ما بعد ظهيرة الجمعة لتعبئة مياه الشرب من محطة المياه، لا لشيء إلا لأنه بالقرب من ماكينة الآيسكريم الوحيدة في الأحساء، حيث مجمع التسوق الأول في المدينة والأهم من ذلك: السلم الكهربائي الوحيد فيها.
كان
العمل الفدائي أيامها في أوجـِه. زغاريد ودموع ودماء وجثث وركام وعلامات
نصر وبنادق وطلقات في الهواء تحيةً لفدائي خارج بـِهامةٍ مرفوعة، وأخرى في صدور
الغزاة.. هذا هو العرس الذي لا ينتهي، هذا هو العرس الفلسطيني.
في خضم هذا العرس، خرج علينا فنان فلسطيني مغمور -وقتها- بمجموعة أغان غدت بمثابة أناشيد للثورة الفلسطينية. كان شريط أحمد
قعبور في كل بيت فلسطيني، وكنت أستمع إليه في سيارة أبي في الطريق إلى أي
مكان، وكأن محرك سيارة (البونوفيل ١٩٨٠) لا يعمل إلا على صوت قعبور! لا زلت
أحفظ ترتيب أغنيات الشريط: البداية بـ "أناديكم"، تليها أغنية لم أعد أحفظ
منها سوى "اسمه الأول نبيل" تليها "ارحل" وتتوالى "يا عشاق الأرض" فـ "لينا
كانت طفلة". وأولى أغنيات الوجه الآخر: "اسمع" حتى آخر الشريط. أتذكر أنني
كنت أحزن إذا كان المشوار أقصر من أن أستمع لـ "أناديكم" مرة واحدة على الأقل.
وقتها- على ما أظن- وُلد فيَّ حب العزف وتفضيلي للموسيقى على الكلمات، فنشوتي بالمقدمة
الموسيقية لهذه الأغنية- على الفلوت والغيتار والإيقاع- لا توصف. وهي
بالمناسبة أولى ما عزفت لاحقا من ألحان في عام ١٩٩١ على آلة الأورغ. كنت أرقب
بسعادة الأغنية التي أحب ولا أملّ الانتظار. أما اليوم، فأية أغنية مهما كانت،
ليست سوى على بعد (كبسات) قليلة على لوحة المفاتيح، أو لمسات على هاتفي،
ولكني أفضل أن تختارني الأغنيات على أن أختارها.
وكانت
أمي ترسل بكاسيتات تحمل رسائلها الملآ بالدموع والقصص والضحكات لأهلها في
مخيم اليرموك في الشام. وهي عملية ليست باليسيرة ابتداء من اتخاذ قرار بشأن
أي شريط
لعبد الحليم حافظ يمكن أن تستغني عنه، ثم تجهيز الظروف الملائمة والهدوء
صعب المنال في ظل وجود فراس الشقي ويوسف كثير الطلبات وإياس سريع الملل
وربى
الطفلة. ناهيك عن عملية تسجيل الرسالة نفسها، والتي كانت تتم على مراحل
وكنا
نشارك فيها قسرًا حيناً وطوعاً أحياناً. وبعد التسجيل تأتي مشكلة البحث
عمَّن من المعارف له سفرة قريبة على الشام. أما بالنسبة للجزء الخاص بي من
التسجيل، فقد كان إما
على شكل طلبات وجمل تبدأ كلها بـ (بدّي) إن كانت موجهة لجدي أبو سمير-
والتي كان
يحرص على تلبيتها فور رؤيتي.. أو شكاوى على إخوتي أو حتى أمي إن كانت
لجدتي .. رحمكما الله يا جدي وجدتي، لم أر في حياتي- ولن- من هو في كرمكما
وسماحة نفسيكما.
وأيامَ
دراستي الجامعية في الأردن في أواسط التسعينات، أذكر أنني كنت أتصل من
هاتف عمومي بخالتي مريم في سوريا على رقم محل كيِّ الملابس حيث يعمل ابنها
سائد -ذو الأعوام العشرة حينها والرجل منذ طفولته. يردّ (المعلم) فينطلق
سائد بسرعة ينادي أمه، لتترك على الفور ما بيدها من مهام منزلية كثيرة
وتنزل من الدور الخامس بسرعة وتتحدث دقيقتين أو ثلاث مع ابن أختها.
يكاد
اليوم أن يكون لكل من أصدقائي وأقاربي هاتف محمول وإيميلين أو ثلاثة وحساب
على (الفيسبوك) وحسابات أخرى على (مسنجر ياهو) و(هوتميل) و(سكايب) و(غوغل
توك)، عدا عن تطبيقات الاتصال المجاني على الهاتف المحمول مثل (فايبر)
و(تانغو). ولكن يبدو أنه عندما تكثر وسائل الاتصالات يقل التواصل مع
البعيدين.
- "بم تفكر؟" قاطعَتني.
- "لا شيء يستدعي اهتمامكِ.. اقتربي شيئا مني فقد اشتقت إليها".
- "من هي؟"
- "أنتِ، ولكن أتحدث معك بضمير (الغائبة) كما أتحدث أحيانا مع الغائبين بضمير المخاطَب".
وهنا انتهى الهامش ولم تنته القصة..
No comments:
Post a Comment