Wednesday, February 11, 2015

بصدد التحول في استدعاء الخطاب الديني



قال لي أسامة علي- صديق من فلسطينيي العراق- إنهم كانوا يشعرون في الثمانيات والتسعينيات بأن أمرا ما على وشك الحدوث في كل مرة يبث فيها التلفزيون العراقي الرسمي أغنية "لاحت رؤوس الحراب". وهي أغنية حرب من الطراز الأول وكانت بمثابة استدعاء لكل أفراد القوى الأمنية والعسكرية للعودة إلى مواقعهم وثكناتهم. ولهذه الأغنية قصة طريفة، فقد كان ملحنها/ سعيد إلياس شابو- في جولة على عدد من مدارس بغداد في الخمسينات عندما كان مشرفاً تربويّا، وبينما كان في طريقه إلى مغادرة إحدى المدارس، ناداه أحد المعلمين من كبار السنّ وسلّمه ورقة بالية، وضعها شابو في جيب سترته، وعندما وصل إلى بيته، تذكر الورقة البالية وأخرجها فإذا هي كلمات (لاحت رؤوس الحراب-- تلمع بين الروابي-- هاكم وفود الشباب-- هيّا فتوة للجهاد-- أهلا، أسود البوادي-- أهلا حماة البلاد-- هيا لحفظ المبادي--- هيا فتوة للجهاد.. إلخ)، وقد أعجب بها وسرعان ما لحنها، وحين أراد تسجيلها لم يعثر على اسم الشاعر في الورقة، وكان قد نسي في أيّ مدرسة التقى فيها هذا الرجل المسن صاحب كلمات النشيد، الأمر الذي جعله يزور جميع المدارس التي زارها سابقاً، ومع هذا لم يعثر على الشاعر. 
المهم في القصة أن المتلازمة الرئيسة في الأغنية هي: "هيا فتوة للجهاد!" ويبدو أن الدعوة للجهاد ضد أعداء الأمة بهذه الكلمات القوية قد لاقت استحسان الملحن المسيحي والنظام البعثي فيما بعد. 



وبالحديث عن الجهاد، نرى أن هذا المبدأ في الفقه الإسلامي امتدت دلالاته في القرن العشرين لتصير اسما يطلقه العرب على أبنائهم- وأحيانا بناتهم- وخاصة في الفترة التي واكبت الاستعمار لتعكس رغبة العرب في التحرر. بل أن هذا الاسم- هو ومرادفاته مثل: نضال وكفاح- يعد من أكثر الأسماء انتشارا في المجتمع الفلسطيني بعد انطلاق الثورة الفلسطينية في أواسط الستينيات لأسباب مفهومة. 

جهاد الخازن

ويخطر كثيرون ببالي كأمثلة حية على من حملوا هذا الاسم- ومنهم من أقاربي- إلا أنني سأكتفي بالكاتب/ جهاد الخازن- والذي يكتب في الحياة اللندنية ويعد من أفضل الكتاب العرب في يومنا هذا ويقال إنه الأعلى أجرا، فكتاباته تجمع ما بين غزارة المعنى ورصانة اللغة وخفة الظل فضلا عن الموضوع الهادف. وهو من الكتاب العرب القلائل الذين يكتبون باللغتين- العربية والأنجليزية- على نفس الدرجة من الاقتدار لدرجة جعلت منه هدفا لنيران المحافظين الجدد في الصحافة الأمريكية إبان إدارة بوش الابن لشدة تأثير كتاباته في المشهد الأمريكي. المهم في الأمر أنه مسيحي الديانة، ولم يشعر يوما بأن اسمه لا يتناسب وموروثه المسيحي المشرقي. ترى ما الذي جعل مسيحيا من الناصرة كأبيه يسمي ولده جهاد عام 1940 سوى أن كلمة "جهاد" لم تكن مختطفة يومها؟

لنعد إلى العراق. فقد قرر صدام حسين بعد إقحام العراق في مستنقع أزمة احتلال الكويت وضع عبارة "الله أكبر" بخط يده بين النجمات الخضر الثلاث التي تتوسط العلم العراقي.كثيرون رؤوها  محاولة منه لإسباغ صبغة دينية على نظامه لإعطاء الانطباع أن العدوان على العراق هو عدوان على الحق. كان ذلك أثناء الأشهر الخمسة التي فصلت الغزو عن الحرب. كنت وقتها في الأردن وأذكر أن الناس هناك كانوا يتندرون حينها بنيّة الأردن وضع عبارة "الله يستر" على العلم كتعبير عن خشية الشارع الأردني من تبعات وقوف الملك حسين مع العراق حينها. رحل صدام وتغير العلم بعده مرتين: الأولى عام 2004 بتغيير خط عبارة الله أكبر إلى الكوفي، والثانية في عام 2008 بإزالة النجمات الثلاث والتي كانت ترمز إلى الوحدة التي لم تحدث بين العراق ومصر وسوريا. ومن غيرنا نحن العرب يزيل رمزا لشيئ لم يحدث؟!

علم العراق من 1963- 1991
علم العراق من 1991- 2004



علم العراق من 2004- 2008
علم العراق الحالي




وعلى ذكر "الله أكبر"، فعندما وصل القذافي إلى الحكم في ليبيا عام 1969، لم يتردد في اتخاذ أغنية "الله أكبر فوق كيد المعتدي" المصرية نشيدا وطنيا- وهي التي كانت بالأساس من الأغاني الحماسية التي واكبت العدوان الثلاثي على مصر وأزمة السويس في الخمسينات. 


بالنسبة للقذافي، فقد رآى- ربما- بهذا النشيد رمزيته للحقبة الناصرية ولمشروع القومية العربية والتصدي لقوى الاستعمار الإمبريالية وليس الجانب الديني من الموضوع.


والمفارقة أن نشيد "الله أكبر"- والذي اعتمده من يوصف بالعلماني الاشتراكي- توقف العمل به على يد من يوصفون بإسلاميي ليبيا ما بعد القذافي، والذين أعادوا اعتماد النشيد الملكي المسمى "ليبيا ليبيا ليبيا"، وربما صوتوا على ذلك في البرلمان وسط "تكبيرات" الحضور!


الأمثلة كثيرة من التاريخ العربي المعاصر على الحركات والأنظمية القومية أو العلمانية أو حتى اليسارية التي تستدعي الخطاب الإسلامي الجهادي في أدبياتها بل وأحيانا في اسمها، وكل ذلك قبل ظهور ما بات يعرف بظاهرة الحركات الإسلامية المسلحة- حتى لا نقول المتطرفة. وأنهي أمثلتي السياسية بحركة فتح، فاستدعاؤها للفتوحات الإسلامية في اسم الحركة كان من باب تحرير فلسطين من الصهاينة وليس نشر الدين، وأدبيات فتح وخطابات قادتها- وعلى رأسهم ياسر عرفات- تزخر بالموروث الديني. ويكفي أن غالبية مراسلات الحركة مروسة بالآية الكريمة: فتح من الله ونصر قريب. 



الأكثر من ذلك أن الدراما العربية قد ساهمت منذ الخمسينات ومن حيث لا يدري القائمون عليها في رسم الصورة التي تبنتها الحركات المتطرفة بشكل أو بآخر وذلك من خلال المسلسلات والأفلام التاريخية التي وثقت دراميا الفتوحات الإسلامية. ففي مقابلة له على راديو مونت كارلو بتاريخ 18 نوفمبر 2014، قال خالد الطريفي/ كاتب مسرحي أردني: 

الدراما العربية صنعت الإطار الشكلي لداعش، وخاصة العَلم، وكأننا كنا نقوم لعقود بتعبئة لما كنا نظن أنه لن يتكرر فإذا به يتكرر ويختطف.. فنحن إذاً قدمنا خدمة لهم بصناعة القالب.
 
من مسلسل القعقاع

من مسلسل القعقاع


ولا بد لمن يتأمل في تلك الصور المأخوذة من المسلسلات التاريخية أن يلحظ الرابط بين ما هو درامي يحاكي الأمس وما أصبح اليوم واقعا يحاكي الدراما..


 وكم كنت حزينا وأنا أعد لهذه المقالة عندما وجدت أن حتى أنشودة "لاحت رؤوس الحراب" قد سرقتها داعش بعد أن وجدتها جاهزة و(مقشرة)، فقدمتها لأتباعها وكأنه عمل أصيل، وطبعا بلا آلات موسيقية (لزوم الحلال والحرام) وباللحن نفسه وبفصحى تلفها اللهجة السعودية. 






وفي ظل وجود إعلام عالمي- وحتى عربي- أحول، يسمي الإرهاب جهادا، طالما كان يمارس ضد أهداف يرفضها عموم المسلمين، ويسمي الجهاد إرهابا- طالما كان ضد إسرائيل ويقبله عموم المسلمين (كتائب القسام وسرايا القدس وشهداء الأقصى مثلا)، في ظل ذلك، تكون الحركات المتطرفة كالقاعدة وأخواتها ومشتقاتها ومَن يمولها أو يحركها أو يستفيد منها من إعلام وأجهزة مخابرات ويمين متطرف متصاعد، تكون قد شوهت وصادرت واختطفت المفاهيم الإسلامية النبيلة من جهاد ضد المعتدي ودفاع عن الأرض بما لن يصلحه ألف عطار، وهي في طريقها للإجهاز على كامل الخطاب الإسلامي الجهادي أمام أعيننا إن لم نتحرك، فها نحن نخشى اليوم الاقتراب من كلمة جهاد أو من التكبير حتى لا نتهم بالإرهاب أو التعاطف معه. 

ولا أقول في النهاية سوى: الله أكبر فوق كيد المعتدي- مسلما كان ذلك المعتدي أم غير مسلم.. 


يوسف الريماوي
ملبورن- 12 فبراير 2015 

No comments:

Post a Comment