Wednesday, February 11, 2015

بصدد التحول في استدعاء الخطاب الديني



قال لي أسامة علي- صديق من فلسطينيي العراق- إنهم كانوا يشعرون في الثمانيات والتسعينيات بأن أمرا ما على وشك الحدوث في كل مرة يبث فيها التلفزيون العراقي الرسمي أغنية "لاحت رؤوس الحراب". وهي أغنية حرب من الطراز الأول وكانت بمثابة استدعاء لكل أفراد القوى الأمنية والعسكرية للعودة إلى مواقعهم وثكناتهم. ولهذه الأغنية قصة طريفة، فقد كان ملحنها/ سعيد إلياس شابو- في جولة على عدد من مدارس بغداد في الخمسينات عندما كان مشرفاً تربويّا، وبينما كان في طريقه إلى مغادرة إحدى المدارس، ناداه أحد المعلمين من كبار السنّ وسلّمه ورقة بالية، وضعها شابو في جيب سترته، وعندما وصل إلى بيته، تذكر الورقة البالية وأخرجها فإذا هي كلمات (لاحت رؤوس الحراب-- تلمع بين الروابي-- هاكم وفود الشباب-- هيّا فتوة للجهاد-- أهلا، أسود البوادي-- أهلا حماة البلاد-- هيا لحفظ المبادي--- هيا فتوة للجهاد.. إلخ)، وقد أعجب بها وسرعان ما لحنها، وحين أراد تسجيلها لم يعثر على اسم الشاعر في الورقة، وكان قد نسي في أيّ مدرسة التقى فيها هذا الرجل المسن صاحب كلمات النشيد، الأمر الذي جعله يزور جميع المدارس التي زارها سابقاً، ومع هذا لم يعثر على الشاعر. 
المهم في القصة أن المتلازمة الرئيسة في الأغنية هي: "هيا فتوة للجهاد!" ويبدو أن الدعوة للجهاد ضد أعداء الأمة بهذه الكلمات القوية قد لاقت استحسان الملحن المسيحي والنظام البعثي فيما بعد. 



وبالحديث عن الجهاد، نرى أن هذا المبدأ في الفقه الإسلامي امتدت دلالاته في القرن العشرين لتصير اسما يطلقه العرب على أبنائهم- وأحيانا بناتهم- وخاصة في الفترة التي واكبت الاستعمار لتعكس رغبة العرب في التحرر. بل أن هذا الاسم- هو ومرادفاته مثل: نضال وكفاح- يعد من أكثر الأسماء انتشارا في المجتمع الفلسطيني بعد انطلاق الثورة الفلسطينية في أواسط الستينيات لأسباب مفهومة. 

جهاد الخازن

ويخطر كثيرون ببالي كأمثلة حية على من حملوا هذا الاسم- ومنهم من أقاربي- إلا أنني سأكتفي بالكاتب/ جهاد الخازن- والذي يكتب في الحياة اللندنية ويعد من أفضل الكتاب العرب في يومنا هذا ويقال إنه الأعلى أجرا، فكتاباته تجمع ما بين غزارة المعنى ورصانة اللغة وخفة الظل فضلا عن الموضوع الهادف. وهو من الكتاب العرب القلائل الذين يكتبون باللغتين- العربية والأنجليزية- على نفس الدرجة من الاقتدار لدرجة جعلت منه هدفا لنيران المحافظين الجدد في الصحافة الأمريكية إبان إدارة بوش الابن لشدة تأثير كتاباته في المشهد الأمريكي. المهم في الأمر أنه مسيحي الديانة، ولم يشعر يوما بأن اسمه لا يتناسب وموروثه المسيحي المشرقي. ترى ما الذي جعل مسيحيا من الناصرة كأبيه يسمي ولده جهاد عام 1940 سوى أن كلمة "جهاد" لم تكن مختطفة يومها؟

لنعد إلى العراق. فقد قرر صدام حسين بعد إقحام العراق في مستنقع أزمة احتلال الكويت وضع عبارة "الله أكبر" بخط يده بين النجمات الخضر الثلاث التي تتوسط العلم العراقي.كثيرون رؤوها  محاولة منه لإسباغ صبغة دينية على نظامه لإعطاء الانطباع أن العدوان على العراق هو عدوان على الحق. كان ذلك أثناء الأشهر الخمسة التي فصلت الغزو عن الحرب. كنت وقتها في الأردن وأذكر أن الناس هناك كانوا يتندرون حينها بنيّة الأردن وضع عبارة "الله يستر" على العلم كتعبير عن خشية الشارع الأردني من تبعات وقوف الملك حسين مع العراق حينها. رحل صدام وتغير العلم بعده مرتين: الأولى عام 2004 بتغيير خط عبارة الله أكبر إلى الكوفي، والثانية في عام 2008 بإزالة النجمات الثلاث والتي كانت ترمز إلى الوحدة التي لم تحدث بين العراق ومصر وسوريا. ومن غيرنا نحن العرب يزيل رمزا لشيئ لم يحدث؟!

علم العراق من 1963- 1991
علم العراق من 1991- 2004



علم العراق من 2004- 2008
علم العراق الحالي




وعلى ذكر "الله أكبر"، فعندما وصل القذافي إلى الحكم في ليبيا عام 1969، لم يتردد في اتخاذ أغنية "الله أكبر فوق كيد المعتدي" المصرية نشيدا وطنيا- وهي التي كانت بالأساس من الأغاني الحماسية التي واكبت العدوان الثلاثي على مصر وأزمة السويس في الخمسينات. 


بالنسبة للقذافي، فقد رآى- ربما- بهذا النشيد رمزيته للحقبة الناصرية ولمشروع القومية العربية والتصدي لقوى الاستعمار الإمبريالية وليس الجانب الديني من الموضوع.


والمفارقة أن نشيد "الله أكبر"- والذي اعتمده من يوصف بالعلماني الاشتراكي- توقف العمل به على يد من يوصفون بإسلاميي ليبيا ما بعد القذافي، والذين أعادوا اعتماد النشيد الملكي المسمى "ليبيا ليبيا ليبيا"، وربما صوتوا على ذلك في البرلمان وسط "تكبيرات" الحضور!


الأمثلة كثيرة من التاريخ العربي المعاصر على الحركات والأنظمية القومية أو العلمانية أو حتى اليسارية التي تستدعي الخطاب الإسلامي الجهادي في أدبياتها بل وأحيانا في اسمها، وكل ذلك قبل ظهور ما بات يعرف بظاهرة الحركات الإسلامية المسلحة- حتى لا نقول المتطرفة. وأنهي أمثلتي السياسية بحركة فتح، فاستدعاؤها للفتوحات الإسلامية في اسم الحركة كان من باب تحرير فلسطين من الصهاينة وليس نشر الدين، وأدبيات فتح وخطابات قادتها- وعلى رأسهم ياسر عرفات- تزخر بالموروث الديني. ويكفي أن غالبية مراسلات الحركة مروسة بالآية الكريمة: فتح من الله ونصر قريب. 



الأكثر من ذلك أن الدراما العربية قد ساهمت منذ الخمسينات ومن حيث لا يدري القائمون عليها في رسم الصورة التي تبنتها الحركات المتطرفة بشكل أو بآخر وذلك من خلال المسلسلات والأفلام التاريخية التي وثقت دراميا الفتوحات الإسلامية. ففي مقابلة له على راديو مونت كارلو بتاريخ 18 نوفمبر 2014، قال خالد الطريفي/ كاتب مسرحي أردني: 

الدراما العربية صنعت الإطار الشكلي لداعش، وخاصة العَلم، وكأننا كنا نقوم لعقود بتعبئة لما كنا نظن أنه لن يتكرر فإذا به يتكرر ويختطف.. فنحن إذاً قدمنا خدمة لهم بصناعة القالب.
 
من مسلسل القعقاع

من مسلسل القعقاع


ولا بد لمن يتأمل في تلك الصور المأخوذة من المسلسلات التاريخية أن يلحظ الرابط بين ما هو درامي يحاكي الأمس وما أصبح اليوم واقعا يحاكي الدراما..


 وكم كنت حزينا وأنا أعد لهذه المقالة عندما وجدت أن حتى أنشودة "لاحت رؤوس الحراب" قد سرقتها داعش بعد أن وجدتها جاهزة و(مقشرة)، فقدمتها لأتباعها وكأنه عمل أصيل، وطبعا بلا آلات موسيقية (لزوم الحلال والحرام) وباللحن نفسه وبفصحى تلفها اللهجة السعودية. 






وفي ظل وجود إعلام عالمي- وحتى عربي- أحول، يسمي الإرهاب جهادا، طالما كان يمارس ضد أهداف يرفضها عموم المسلمين، ويسمي الجهاد إرهابا- طالما كان ضد إسرائيل ويقبله عموم المسلمين (كتائب القسام وسرايا القدس وشهداء الأقصى مثلا)، في ظل ذلك، تكون الحركات المتطرفة كالقاعدة وأخواتها ومشتقاتها ومَن يمولها أو يحركها أو يستفيد منها من إعلام وأجهزة مخابرات ويمين متطرف متصاعد، تكون قد شوهت وصادرت واختطفت المفاهيم الإسلامية النبيلة من جهاد ضد المعتدي ودفاع عن الأرض بما لن يصلحه ألف عطار، وهي في طريقها للإجهاز على كامل الخطاب الإسلامي الجهادي أمام أعيننا إن لم نتحرك، فها نحن نخشى اليوم الاقتراب من كلمة جهاد أو من التكبير حتى لا نتهم بالإرهاب أو التعاطف معه. 

ولا أقول في النهاية سوى: الله أكبر فوق كيد المعتدي- مسلما كان ذلك المعتدي أم غير مسلم.. 


يوسف الريماوي
ملبورن- 12 فبراير 2015 

Friday, February 22, 2013

واقع مر لتلفزيون الواقع العربي



بكاء الفنانة إليسا أثناء مشاهدتها لأداء متسابق أردني في برنامج المواهب الفنية الجديد (إكس فاكتور).. هذا الخبر منشور على عدة مواقع إخبارية عربية اليوم.. طيب، ممتاز، ولكن ليس هذا موضوعنا- وخاصة أن المتسابق الأردني كان يغني بلغة أتقنها ولا تستهويني- الإنجليزية. ما يهمني أنني، كمراقب للإعلام العربي، كنت أظن أن الفضاء العربي قد أتخم ببرامج المواهب الفنية والتي تبثها الفضائيات العربية ولم يعد يتسع للمزيد منها، ولكن يبدو أنني طلعت غلطان

 تتابع كل هذه البرامج وتشعر وكأنك تقف في محطة قطار شنغهاي تتأمل وجوه الناس لفرط تشابه مضمونها.. في ظل كل هذا الازدحام، لا بأس من التذكير بالطريقة التي بدأ فيها كل هذا السيرك الإعلامي.. في عام 2001، قام سايمون فيلر- رجل أعمال بريطاني الجنسية قبرصي المولد- بإنتاج برنامج (بوب آيدول) تم بثه على شبكة آي تي في التلفزيونية البريطانية وقامت بتوزيع حقوقه شركة فريمنتل. هذا البرنامج يعتمد على إشراك الجماهير باختيار أفضل المواهب الغنائية في موسيقى البوب بعد تصفيات يشرف على مراحلها الأولى لجنة تحكيم من نجوم فن من ذوي الجماهيرية الواسعة. بعد النجاح الكبير للفكرة، وفي الوقت الذي كانت تروج فيه للحرب على العراق بحملة من الأكاذيب- اشترت شبكة فوكس الأمريكية حقوق بث هذا البرنامج في أمريكا باسم (أميريكان آيدول) وحقق بدوره جماهيرية ساحقة- ويكفي أن نذكر أنه استقطب بنسخته الأولى أكثر من عشرة آلاف متسابق. بعيدا عن ضفتي الأطلسي، اشترت قناة المستقبل اللبنانية حقوق بث البرنامج ولكن باسم (سوبر ستار) (لاحظ أنها لم تكلف نفسها عناء تغليف علبة الشوكلاتة المستوردة بغلاف عليه اسم عربي).. إذن فالبداية بالعربية كانت في موسم 2003 وهو ما حقق بالفعل انتشارا غير مسبوق في المنطقة العربية، فقد  كانت أخبار التصفيات على كل لسان. خذ عندك هذه القصة مثلا: في شهر أغسطس 2003 سافرت من أستراليا إلى الأردن لحضور عرس أخي فراس. وأذكر أنه بينما كنت بالتاكسي متجها إلى البيت في منطقة (حي نزال) في أحد ضواحي العاصمة الأردنية عمّان، سمعت فجأة أصوات إطلاق النار.. لم أشأ أن أسأل شوفير التاكسي عن ذلك لمعرفتي بأنه سيفتح قصة لن تنتهي إلا بعد مرور نصف دينار على العداد (أقلها)، ولكنه تبرع بالإجابة دون سؤال بعد أن تلقى اتصال تهنئة من أحدهم لفوز المتسابقة الأردنية ديانا كرازون على المتسابقة السورية رويدا عطية في الحلقة النهائية من سوبر ستار. ومن يعرف الأردن ومثلها بعض الدول العربية يعرف أننا نطلق النار في الهواء (وأحيانا في البشر سهوا)  في المناسبات السعيدة، من زواج أو تخرج من التوجيهي أو الجامعة.. لدرجة أن جارنا في حي نزال أطلق عيارات نارية في الهواء لأن ابنته ذات ال9 أعوام أعدت له أول (كاسة شاي) في حياتها

لا شك أن البداية القوية التي حققها برنامج (سوبر ستار) في الموسم الأول شجعت المزيد من القنوات الفضائية العربية على السير على خطى المستقبل.. فبعد سنة واحدة فقط، جاءت قناة إل بي سي- اللبنانية أيضا- ببرنامج يضاهي الأول شهرة وهو (ستار أكاديمي).. ثم فرطت المسبحة بالمزيد من مثل هكذا برامج.. وخاصة مع دخول عملاق الترفيه في العالم العربي- شبكة (إم بي سي) إلى ساحة المنافسة باحتكارها حقوق بث النسخة العربية من (أرابس غات تالنت) وأحلى صوت ومحبوب العرب. ثم بعض المنافسة المصرية من قبل قناة الحياة وبرنامج صوت الحياة، وأخيرا قناة (سي بي سي) المصرية منتجة  برنامج (ذا إكس فاكتور)- -وهنا كنا بدأنا


هناك وجهان ونصف لهذه البرامج: الأول ما تظهره القناة للمشاهد من دعم لمواهب شابة ومنافسة شريفة قائمة على جماهيرية المشترك المغلفة بقالب من التسلية البناءة. والوجه الثاني ماديّ بحت وأكثر تعقيدا وصدقا. فالربح المادي للقناة يأتي من شركات القطاع الخاص عبر مسارين: يتمثل الأول بالرعاية الرسمية أو الفرعية، والثاني بالإعلانات المدفوعة في الفواصل أثناء البث. وما تدفعه الشركات المعلنة يتناسب طردا مع معلومات شركات مسح السوق والمستهلك حول تقديرات عدد المشاهدين، وهو ما قد يصل لآلاف الدولارات للثانية الواحدة. المصدر الثاني للدخل المادي- وربما الأول من ناحية العوائد- يأتي من الرسائل النصية التي يرسلها المشاهد للتصويت لفنانه المفضل. هذه الرسائل- بالطبع- ليست بتكلفة الرسائل النصية الاعتيادية بل قد تصل إلى ما يزيد عن 10 أضعاف الأخيرة. وهنا تأتي منظومة جديدة بالكامل وهي منظومة شركات الاتصالات.. فقناة المستقبل- مثلا- ارتبطت بعقود مع شركة اتصالات واحدة في كل بلد عربي تقوم بتخصيص أرقام معينة من قبل شركات الاتصال لتلقي رسائل الجمهور من داخل تلك البلد بحيث تتقاسم القناة المنتجة وشركة الاتصالات عوائد الرسائل والمقدرة بعشرات الملايين 

لا زلت مصرا على تسمية ما تبقى من تحليل لظاهرة برامج الواقع بنصف وجه- فهو مختلف عليه، لأن البعض يرى برامج تلفزيون الواقع عموما وبرامج الهواة خصوصا غزوا ثقافيا للعرب وتغريبا للهوية والثقافة العربية-  والبعض الآخر يرى في هذا الرأي تعزيزا لنظريات المؤامرة والتي عششت في كنفها الكثير من أقلام الكتاب وأصبحت تعفينا من محاسبة الذات


أميل إلى ربط هذا الزبد الإعلامي بغياب مشروع توعوي واضح- ديني كان أو قومي.. ويكفي أن أذكر أن قنواتنا العربية بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في ربيع 1996 ومذبحة قانا فيما عرف بـ "عناقيد الغضب"، قررت أن ترد بـ "عناقيد الطرب" بسلسلة من الأغاني الوطنية على اعتبار أنها كبدت العدو الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات واستردت كرامة لبنان 

ولكن إذا حصرنا تحليلنا لهذه الظواهر بالكلام في الإعلام، فعلينا ألا ننسى العرض والطلب.. فلو لم يكن هناك طلب من قبل السواد الأعظم من المشاهدين، لما كان هناك عرض من قبل القلة المتحكمة ببوصلة الإعلام، أو لفشل إن تم.. ولكن علينا أن نعترف أن الذوق العربي العام تستهويه إثارة هذه البرامج ويستثيره لعبها على وتر القبلية والإقليميات الضيقة. فالتصويت في هذه البرامج مشابه للتصويت في برلمانات الصوت الواحد: يذهب لذوي القربى وليس للصوت الجيد- ولتأتوني بمتسابق مصري- مثلا- فاز بفضل أصوات المغرب في ظل وجود منافس مغربي إن أردتم أن أصدق عكس ذلك



عندما يتداخل المال بعلم النفس والاجتماع بالسياسة والأيدولوجيا بالإعلام- يجد العرب أنفسهم حقل تجارب ومستوردين لا مصدرين، فبرامج الترفيه هذه التي تفرز لنا طوابير من الأصوات العربية الصداحة بفنون بلاد الشام والعراق ومصر والخليج والمغرب العربي، لم تكن لتصل إلينا إلا بعد ترجمة عقد ما لحقوق بث من الإنجليزية إلى العربية.. وحتى إشعار آخر ، أترككم للاستمتاع بالمزيد من هذه التخمة الترفيهية 

Thursday, January 10, 2013

للحقيقة وجهان أو أكثر- 1




في يوم شتوي ولكنه دافئ، استيقظت على رنين منبه الهاتف النقال. لا زلت أصر على تسميته (هاتفا) على الرغم من أنني بوجوده لا أشعر بالعجلة لإصلاح ساعة يدي، وبدونه لم أعد أستطيع إجراء عملية حسابية، أو الاستماع إلى الموسيقى أو صعود درج مظلم.


 كانت الساعة الثامنة وسبع دقائق صباحا- لا أدري لماذا يتجنب الناس الدقائق التي لا تقبل القسمة على خمسة عند ضبط المواعيد- كأن يقول أحدهم لحبيبته: أراكِ غداً في الرابعة وسبع دقائق..أو لصديقه: انتظرني عند باب المطعم في السادسة وثلاث دقائق.. ربما لأنه " في دمشق، تطير الحمامات فوق سياج الحرير اثنتين اثنتين" كما قال درويش..


أدركت أنه ليس لدي متسع من الوقت، فنهضت من سريري على مهل لأن الموعد مهم ولكن ليس لدرجة العجلة، فقد سبق وأن تأخرت عليها ولم توبخني كثيرا.


"إنه البرغي اللعين مرة أخرى!" هكذا تمتمت في نفسي وأنا أشد برغي عكازي.. شددته بطرف ملعقة كانت في كوب شاي احتسيته قبل نومي... يعجبني منظر فنجان الشاي أو القهوة وفيه ملعقة، ربما لأنه يذكرني بنكتة أحبها وتضحكني كلما قلتها لصديق – بغض النظر إن أعجبته أم لا.


توجهت إلى حاسوبي على المكتب للاستماع إلى راديو مونت كارلو عبر الإنترنت.. هكذا أبدأ يومي عادة، أغنية عربية تليها فرنسية/ إنجليزية وهكذا. عرب أستراليا عموما لا يحبون فارق التوقيت مع بلدانهم لأنه يعزز شعورهم بالغربة والعزلة بشكل أقسى منه في أوروبا.. فهو في الأخيرة انفصال جسدي- وليس زمنيا- عن الأهل.. أما هنا، فعندما يحلو لأحبائنا الكلام نكون نياما وعندما يحلو لي الكلام أكون نائما أيضا.. 
وأزعم أيضا أن الأمر سيكون أسهل عليّ لو كنت في إحدى الأمريكتين. فنحن في أستراليا أول من تصله الشمس، وهو ما يتناقض مع كون اسمي يبدأ بآخر أحرف الهجاء.. خذ مثلا الامتحانات المدرسية الشفوية، كان علي الانتظار حتى يفرغ الأستاذ من كافة الطلبة ليصلني الدور.. وفي البداية، كنت أشعر بشيء من التعاسة والضيق لاضطراري للانتظار، ولكني مع الوقت اكتشفت أهمية حرف الياء، فغالبا ما يكون الأستاذ قد ملّ ريثما يصلني الدور، وبالتالي أحظى بأسرع الأسئلة وأسهلها.. ربما لو كان اسمي أحمد أو إبراهيم لكنت روّضت غربتي بشكل أفضل.. ولكن لذلك فوائد أحيانا: فمحطات الراديو العربية تبث بعد منتصف ليلهم فقرات موسيقية بلا انقطاع، لا يستمع إليها سوى الساهرين هناك وأمثالي هنا، أو هناك..

تقل أهمية تناسق ألوان ملابسي مع ازدياد قطع ملابسي في سلة الغسيل، لحسن الحظ عندي من القمصان السوداء الكثير فهو 'ملك الألوان'، هكذا قال لي بائع ملابس في عمان.. لا أصدق الكثير من وعودهم ونصائحهم ولكن لسبب ما اخترت العمل بنصيحته اليوم. 


عطوري كثيرة ومتنوعة، ليس لأنني مولع بجمعها بل لأن زجاجة عطر هي أفضل- وربما أسهل- ما يمكن أن يهديه إليك عربي. وبغض النظر عن أسماء العطور المجردة والتي لا تعني لي شيئا، وعن  ثمنها وشهرتها، أختار عطوري حسب المناسبة.. ولا أعني هنا المناسبة التي أستعد لها، بل تلك التي ارتبطت ذكراها بالعطر، لأن غدي هو أمسي القادم بطريقة أو بأخرى..



يُتبع


Wednesday, December 19, 2012

Yarmouk Camp, and a few other things



After ten years of homesickness in Australia. It is only now that I feel estranged, remembering homes no longer inhabited by their residents in those dark narrow alleyways, in that Palestinian refugee camp in Damascus called Yarmouk.

Whenever I used to visit them, I used to stomp my way over its rugged roads, choose carefully where to place my foot or my walking stick to avoid potholes (or water puddles in the winter). My hands would lean on the rough walls adorned by a picture of a martyr or by a slogan of the Palestinian uprising, or an old and badly-maintained car by the side of the road. Other, luckier, times, I would lean on the shoulder of one of my beloved relatives who were born a physical manifestation in the camp and grew up chained souls in Safad. 

There, where ever I traveled to, I was rushing. For, every second I spend with them is another story or laugh, so why settle for less? 

“Be careful of the irrigation pond, my son!” Grandma Um Sameer would warn me every time I would leave her house to go to my auntie Mariam’s, especially at night. May the blessings of Allah be on you, my dear. I still have the photo of me wearing my graduation attire to send to you, but you passed away two months before my graduation.

I don’t remember ever walking up 5 flights of stairs except when visiting my aunt Mariam. What’s strange is that most of all the apartments I used to visit her at were at least on the fourth floor. Yesterday I heard she left her home to go to Jermaneh in the Damascus countryside. I have not called her yet but I’m sure I’ll ask her if she had decided (by mistake) to live on the ground floor. I’m quite sure I would happily visit her even if she lived on the 10th floor.


When we miss our family and loved ones, we imagine them in a static image our memory perceives, in their rooms, wearing that specific shirt or thawb in that specific colour, smelling of yougurt cooked to make Shakiria (meat and yoghurt dish), our mind sees their dancing that needed no occasion. Our mind’s eye sees old newspaper clippings on the kitchen shelves. We see the ghee container that is now a vase.

And as long as they are still living in their homes, my homesickness remains a little bit less painful. Maybe because I know where to buy them sweets from on my way to visit them from the airport, or I would know what turn of the street my heart would start racing with excitement from.


But they all left, yesterday, none of that matters now. My breakfast on the next day of my arrival I will not be manakish from Abu Hasheesh Butchery. Instead here I sit on my chair, unable to even miss them properly.. this is the real estrangement, this is what it’s like to be in exile.. 


Tuesday, December 18, 2012

مخيم اليرموك.. وأشياء أخرى



بعد عشر سنوات من الغربة في أستراليا.. أشعر الآن فقط بالاغتراب وأنا أذكر بيوتا لم تعُد تعجُّ بساكنيها في تلك الجادّات الضيقة المعتمة، في ذلك المخيم للاجئين الفلسطينيين المُسمى اليرموك


في كل مرة كنت أزوركم فيه، كنت (أثِبُ الهُوَينا) على طرقات المخيم الوعرة، وأختار بعناية أين أضع قدميَّ وعكازي تجنبا لحفرة هنا أو لتجمع مائي- في الشتاء- هناك.. أتكئ تارة على جدار خشن تزينه صورة شهيد أو شعارات الثورة الفلسطينية، أو على (طقطيقة) متهالكة تقف على جانب الطريق، وتارات على ما تيسر من أكتاف أحبتي وأهلي الذين ولدوا جسدا في المخيم وترعرعوا روحا في صفد..  وفي كل مشوار مشيته هناك، وأيّا كانت الوجهة، كنت أستعجل الوصول.. فكل دقيقة أخرى هناك، تعني قصة أو ضحكة أخرى، فلِمَ الاكتفاء بالقليل؟

 دير بالك من (الجورة) يا ستي!.. هكذا كانت توصيني ستي أم سمير في كل مرة أذهب من بيتها إلى بيت خالتي مريم، خاصة إذا كان الليل قد حل.. رحمك الله يا ستي، لا زلت أحتفظ بصورتي بـ (روب) التخرج التي أمّـنتِني أن أرسلها لك.. ولكنك رحلت قبل تخرجي بشهرين  


لا أذكر أنني وصلت في حياتي للطابق الخامس على الدرج إلا في زياراتي لخالتي مريم، والغريب أن آخر ثلاثة أو أربعة بيوت زرتها فيها في العشرين عاما الماضية كان أقلها في الطابق الرابع.. بالأمس سمعت أنها تركت بيتها إلى جرمانة في دمشق، لم أتصل بها بعد ولكني متأكد أنني سأسألها إن كانت (غلطت هالمرة) وسكنت عالأرضي، ومتأكد أكثر أنني سأزورها بكل فرح حتى لو كانت تسكن على العاشر

 كأننا وإذ نشتاق لأهلنا، نتذكرهم في الحيز الذي نعرفهم به.. في غرفهم، بألوان ملابسهم، برائحة اللبن المطبوخ لإعداد الشاكرية، بضجة دبكاتهم ورقصاتهم التي لا تحتاج إلى مناسبة، بصور من رحلوا بين أطقم فناجين القهوة التي لا تنزل إلا للضيوف في (الفترينة)، بعناوين أخبار قديمة على قصاصات جرائد تغطي رفوف (نملية) المطبخ.. بصفيحة السمنة التي أصبحت مزهرية


وطالما وهم ما زالوا يشغلون ذلك الحيز، يبقى الشعور بالاغتراب أقل إيلاما.. ربما لأننا نعرف من أين سنبتاع شيئا من الحلوى في الطريق من المطار إليهم.. ومن أي (دَخلة) ستبدأ نبضات القلب بالتسارع.. أما وقد نزح آخرهم أمس، فلم يعد للحيّز قيمة، ولم يعد للمكان في القلب مكان..  ولن أصحو على صوت بائع المازوت، ولن تكون (سفيحة اللحمة) من عند ملحمة أبو حشيش إفطاري صباح اليوم التالي لوصولي.. وهأنذا أجلس الآن على كرسيي هنا لا أجيد حتى الحنين إليهم.. فهذه هي الغربة.. هذه هي الغربة  

Thursday, August 23, 2012




A lost homeland, and a missing boat
The family of Omar Melhem (Palestinian-Iraqi) as an example.. Part 1

Yousef Alreemawi 
(ASPIRE) Founder and director- Melbourne 

Ameera (junior) was 5 years old when her father, Omar Melhem, mother Ameera Al-Shabaan and two siblings boarded the plane from Cyprus to Indonesia, 5 months ago. Despite their two-month tourist visa, Omar and Ameera were not in Indonesia to enjoy its lush Archipelago islands, and though theirs was a return ticket, it was not in their intention to return to Cyprus.

Little Ameera with her mother at Jakarta Airport- March 2012 (source: Omar Shabaan- Ameera's uncle)

Indonesia’s closeness to Australian shores makes it the ideal transit destination for immigrants from war-torn, poverty stricken countries that are in Australia’s scope such as Afghanistan, Iraq, Iran or Sri Lanka. In the case of little Ameera, she is one of the fourth generation of the Diaspora Palestinians, whose parents had been driven out of Haifa in Palestine and sought asylum in Iraq in 1948.

Born in 1977, Omar Melhem had not known a home other than Iraq, he had not even ventured out of Baghdad. He grew up there; went to high school and later opened up a sweetshop there.  It was in Baghdad that he had his small family, that he heard from the elders, stories of his Palestinian heritage.  It was in Baghdad that he forged his identity, fused between the suburbs of Baghdad and Haifa.  He lived amongst the Iraqi people and shared in their toil and struggles.


Omer Melhem (source: www.paliraq.com)

The tragedy of expulsion that hit his parents in 1948 repeated itself with Omar Melhem in 2005 when death threats forced him to desert his home in Doura, Baghdad to Baladiyyat district, which hosted a large number of Palestinians. Some individuals wanted to take his house for no other reason other than that he was Palestinian; a vulnerable and easy target in times of no law and order. 

The fall of Saddam Hussein.s regime in April 2003 shifted the country to unprecedented levels of internal polarisation and violence that struck all colours of the Iraqi political, ethnic, religious spectrum, especially the minority groups of Iraq being the most vulnerable. Given that the Palestinian community of Iraq is one of the smallest groups of the 15, or so, minorities of Iraq, they paid the heaviest price of systematic uprooting, persecution, kidnapping, sectarian violence and ruthless killing at the hands of Iraqi government death squads as well as various militia groups that stemmed from the US-led invasion of Iraq. 

Some political and sectarian Iraqi entities claim that the Palestinian Iraqis, entirely Sunni Muslims, were treated favourably under the Ba'thist regime. This caused some resentment among some segments of Iraqi society toward Palestinians despite the fact that Palestinian Iraqis were mostly living in poorly maintained suburbs and the majority of them were living below the poverty line. Compounding such negative attitudes, some Iraqis partially blamed the Palestinians for the eight-year war with Iran (1980- 1988) and the invasion of Kuwait in 1990, which resulted in the heavy bombardment of Iraq followed by 13 years of harsh sanctions. This was attributed to the discourse of the Ba'thist regime that regularly made a clear linkage between its military aspirations and Palestine in its speeches. 

The peak of violence against the Palestinians took place after the bombing of the two Shiite mosques in the city of Samarra in February 2006. The circumstances of those Palestinians living in Iraq worsened considerably as they became scapegoats, synonymous with terrorists, insurgents and/or Saddamists. Human Rights Watch reported that in mid-March 2006, an unknown militia group calling itself the Judgment Day Brigades distributed leaflets in Palestinian neighborhoods, accusing the Palestinians of collaborating with the insurgents.


Official Iraqi news agencies played a large part in stoking ethnic tensions. One story is narrated by Kamal Ghannam, one of 68 stateless Palestinians who were granted humanitarian asylum by Australia in 2009 after ASPIRE had translated and lodged applications on their behalf to the Australian government. Kamal had spent years stranded in Al-Hol desert-camps on the border between Iraq and Syria. He told me how in 2006 he was kidnapped, severely tortured and threatened, and forced to make false confessions on official Iraqi television of terrorist bombings targeting Shiites.

Like the majority of Iraq's  30,000 Palestinians (approx.), Omar Melhem decided in 2007 that he had to leave Iraq, the country in which he was born and where he had lived for 30 years, to escape the prospect of certain death which threatened his family.

However leaving Iraq is a highly complex issue for Palestinians. The travel documents given to Palestinians during the Saddam regime could not be renewed now. Partly because of new complications and regulations imposed by the new regime, and partly because the simple act of going to that particular department in Civil Status building makes you an easy target for assassination by identity. And in any case, most Arab countries did not accept these documents even back in the 1980s and 1990s. Sometimes, even Iraq would not allow the holders of its own travel documents to leave the country. A few weeks ago, I heard about the bribes that had to be paid during the 1990s to an official in the Olympic committee to get a few extra names registered in the list of sports participants just so they could leave the country. 


The only way out for Omar then was to pay US$4000 for forged Iraqi passports for himself and Ameerah and their two children Yusra and Ibrahim. Little Ameerah was not born yet back then.

Yusra (12 yo) and her brother Ibrahim (10 yo) in Indonesia- April 2012 (Source: Omar Shabaan, the uncle)

Their first destination was Turkey through Syria, and through there to make contact with a smuggler to take them to Greek Cyprus.

This was done in two stages; the first is to take a plane from Turkey to Turkish Cyprus, which is an immense risk because of the possibility of the forged passports being detected, and so the smuggler arranged for individuals  to facilitate the safe passing from Turkey to Turkish Cyprus. The second stage was a life or death journey by car through barbed wire and mine-laden borders which separate Turkish Cyprus to Greek Cyprus. Omar had paid US$ 12000 to be taken here;
US$4000 each for him and his wife, and $2000 for each child. 

Their long-awaited arrival to Larnaca had marked the beginning of a new chapter of life in limbo.. 
To be continued..  

Tuesday, August 21, 2012